اللسان الإفريقي لسان ذو حروف وكلمات وجمل، يتكوّن
منهن التركيب فيصير كلاما مفهوما، ويألّفن ألفاظا ذات دلالات، تفهم من معجمه معان
ومدلولات..... له أقوام –طبعا- يتحدثون به بينهم، ويتواصلون به مع بعضهم البعض ومع من فهمه من غيرهم. لكن الإشكال الذي ينيط به
هو هل هذا اللسان لغة أو لهجة ؟.
فالحال
المشهود لدي بعض الناس أنهم يطلقون على اللسان الإفريقي لهجة أو لكنة وهم في هذا
الإطلاق صنفان:
1-
صنف لا يقصد
وراء هذا الإطلاق تنقيص من اللسان الإفريقي سوى أنه أخذ هذا الإطلاق من طعطعات الناس
و التداولي الجمهوري.
2-
وصنف يقصد من وراء ذكر كلمة (لهجة أو لكنة) تخفيض من هذا اللسان وتضييقه في
قعر الدنو من الشرف اللغوي. وهذا هو الغالب لدى المطلقين كلمتي(اللهجة واللكنة)
على اللسان الإفريقي.
والحقيقة أن اللسان الإفريقي ينطبق عليه ما ينطبق على
ألسنة العالم من شرف و دنو أو جودة و رداءة أو فصاحة و ركاكة، فهو وعاء لغوي لدى
الأفارقة يتمّ به التواصل بين أفرادها، يحتوى على مفردات معجمية ودلالات مستفيضة،
و له مصطلحات علمية فنية وأدبية. لكنه يفقد
وتنقصه دراسة وفيّة وهذا مما يجعل غير الناطقين به يستخفّون به و يتهاون بقيمته
اللغوية. ويطلقون عليه ما شاؤوا لهجة أو لكنة أو لغة أحيانا.
كتبت هذا المقال لأضع نقطة على حرف هذا الموضوع الذي
طالما يخلخل نفسي من فترة غير يسيرة، وقد كان السبب الرئيس يرجع إلى نقاش دار بيني
وبين صديق لي فإنه يرى أن اللسان الإفريقي لهجة لم يرتق إلى ما يسعنا إطلاق
"لغة" عليه. فأجهدت نفسي في بحث التفرقة الدقيقة بين اللغة واللجهة
فكانت نتيجة البحث هي أنني لاحظت أن محاولات التفريق بينهما متابينة يبعد الجمع
بين بعض هذه المحاولات. لا يمكنني -والحال هكذا- إلا أن أشير بعجالة إلي بعض
المعاير التي ينطلقون منها في تفريق بينهما.
1-
طريقة الأداء:
ينصّ كثير من المعاجم العربية أن اللغة هي لسان وأن اللهجة طريق من طرق أداء اللغة،
و أنها جرس الكلام أي صوته وبمعنى آخر أنها تباين النغمة الموسيقية في الكلام.
2-
اللهجة : هي
استعمال خاص للغة ، في بيئة معينة ، ولا يكاد ينتشر استعمال لغة، حتى تتعدد لهجاتها،
نتيجة ظروف مختلفة جغرافية ، و اقتصادية ، واجتماعية.
3-
الأدب: يرى بعضهم أن الأدب هو المعيار الأساسي بين اللغو واللهجة فإذا كان
لدى قوم أدب في لسانه فهذا اللسان لغة و ليس لهجة.
4-
عدم التفاهم: وذهب أقوام إلى أن الفرق بينهما يكمن في عدم التفاهم، ويعني هذا أنه ما لا يمكن لواحد أن يفهمه بأي وسيلة
كانت إلا بتعلّمه.
5-
الانحطاط اللغوي: فأهل هذا القول قالوا إن اللهجة هي انحطاط أصاب اللغة فهو
تقهقر لغوي تجزّأ عن اللغة عند إصابهتا بهذا الانحطاط.
فإذا غربلنا اللسان الإفريقي بهذه المعاير كلها سيتّضح
جلّيا أن اللسان الإفريقي منه ما هو لغة ومنه ما هو لهجة، ومن ثمّ لا يمكن أن نخلع
ثوب اللهجة على هذا اللسان بكامله. لكنني أميل كثيرا إلى المعيار الأول لسببين:
1-
هذا المعيار دقيق من ناحية الاستعمال العربي القديم الذي وصل إلينا من
استخدامه لهذين المفهومين (اللغة واللهجة) فإن اللغة العربية كوحدة لغوية تختلف
قبائل العرب في بعض مفرداتها ومخارجها فنجد مثلا لغة هذيل، ليست هي لغة بني أسد،
لذا يقال لغة قبيلة كذا، وهم حين يقولون هذا لا يعنون بهذا الاستعمال استقلالية
لغوية لهذه القبائل أو البطون -إن صحّ التعبير- سوى أنهم يقصدون به الإشارة إلى أنها لهجات
مقصورة على هولاء القوم. فالكشكشفة والشنشنة والعجعجة كلها لهجات لبعض قبائل العرب
وتنتنمى كلّها أيضا إلى وحدة اللغة العربية. و كونها لجهات لا يمنع المتكلّم بإحداها
من كونه يتحدّث باللغة العربية. وهذا ما يقع بالضبط في كثير من ألسنة الأفارقة.
2-
إذا أخضعنا
اللسان الإفريقي لبقية المعاير غير الأول لا نخرج من دائرة جعل اللسان الإفريقي
كلّه لغة أو لهجة فإذا قلنا إنه لغة فهذا لا يصحّ لأنه بالضرورة عرف أن للسان
الإفريقي لهجات تفرّعت منه ، وإذا حكمنا عليه باللهجة فهذا أيضا باطل فبأي معيار
يتأسس هذا القول؟ لكن إذا أردنا أن ننصف في الموضوع نقول إن اللسان الإفريقي لغة
ولهجة فإذا كانت هناك وحدة لغوية مستقلّة تفرّع منها عدّة لجهات ذات دلالات
متقاربة و معاني مترادفة ففي هذه الحالة نقول إنه لغة وليس لهجة ومن قال بلهجويته
فقد هذى. و أما في حالة وجود مفردات وكلمات مختلفة -شيئا ما- في معانيها في لغة
واحدة وخاصة إذا كان هذا الإختلاف يرجع إلى
اختلاف جغرافي أو شيء من هذا القبيل نقول إنه لهجة. ولضربت مثلا من اللغة العربية
لكن ضيق المقال والاكتفاء بما ذكرت سابقا (الكشكشة وغيرها...) يجعلني أن أضرب
باللغات الإفريقية مثلا فقط.
لغة
يوربا:
فإذا نظرنا إلى لغة يوربا في نيجيريا مثلا نرى انها لغة مستقلة لها وحدة لغوية
تتميّز بخصائص ومميزات تجعلها تتسم باستقلالية لغوية ينضبط فيها المعيار
(المختار). فإن لهذه اللغة عدّة تفرّعات منها: لهجة إبومينا (شرق جنوب نيجيريا) لهجة
ايجبو ( جنوب شرق نيجيريا) لهجة أويو (شرق جنوب نيجيريا) ولهجة إيجيشا ( جنوب شرق
نيجيريا) فضلا عن لجهات أخرى انحدرت منها خارج نيجيريا مثل: بنين، نيجير، توغو، برازيل
وغيرها.
لغة
بنبارى:
فللغة بنبارى أيضا استقلالية لغوية وتنتمى إليها عدّة لجهات إفريقية فمثلا في مالى
تسمّى بنبارى و في بوروكينافاسو تسمّى جولا، وتدعى انقو في غينيا ولها أسماء عدّة
غير هذه في بلاد أخرى داخل افريقيا. ومن خصاخصها عدّة التسميات المطلقة عليها. وهذا
لا ينقص من قدر وحدتها اللغوية.
و
لغة هاوساوية وفولانية من قبيل هذا الصنف من اللغات الإفريقية التي
لا يصحّ إطلاق كلمة لهجة عليها لكونها لغة مستقلة بذاتها. فإذا كان الأمر هكذا
فيجب علينا مراعاة الموضوعية في الإطلاقات وخاصة من الناحية اللغوية التي هي شطر
كبير في هويّة الإنسان فإنه إذا سلخت من الإنسان لغته فقد سلخت هويته. وهذا ما لا
ينبغي أن يرضي به إنسان حتى ولو سقطت لأجله رقبته.
وإذا
كنا نريد أن تعمّق بكثير في حقيقة لغوية بعض ألسنة إفريقيا لكدنا نطلق على كلها-اي
ألسنة إفريقيا - "لغات" لبعض النقط التي تعضد هذا المذهب فإننا إذا
رجعنا إلى كتب النحو قديمة أو حديثة لالتمسنا ذكر مسألة نحوية يقال لها لغة
"أكلوني البراغيث" -قبيلة بني الحارث بن كعب- فالمسألة لا يهمّنا بسط
المقصود النحوي منها قدر ما يهمّنا الدلالة المعجمية من عنوان المسألة فإن النحاة
أطلقوا كلمة لغة على لسان قبيلة من قبائل العرب لو عدّت أفرادها وقتئذ ربّما لن يتجاوزوا
عشرين إلى أربعين وعلى رغم ذلك وسّعوا نطاق المصطلح "لغة" إلى ما ليس -في
الحقيقة- إلا أنه لهجة فإذا كان هذا الوسع -إن صحّ التخمين- قويا إلى حدّ أن عدّت
لهجة قبيلة قليلة لغة فأولى أن تكون ألسنة إفريقيا كلها –لغات بهذا المفهوم وهذا
الوسع!!!.
ومن
ناحية أخرى فإن أصحّ وأقدم[1] تعريف لمفهوم اللغة وصلنا
من العرب هو تعريف ابن جني الذي قال فيه : حدّ اللغة هو أصوات يعبّر بها كل قوم عن
أغراضهم" فإذا كانت اللغة تكمن حقيقتها في هذا المفهوم فألسنة إفريقيا لغات
لأنها من حيث التعبير يتمّ بها التواصل بين الأهالي الأفارقة، وتختلف درجات
أصواتها من تفخيم وترقيق وجهر وزجر وتمديد وتقصير فهي تعلو وتنخفض، ومن حيث
الأغراض فهي تفي بالأغراض وتقضي الحاجات
التواصلية. فهذه هي المحتويات الثلاثة التي ينصبّ عليها تعريف ابن جني للغة، فإذن أفلا
تكون ألسنة إفريقيا من هذه ناحية لغات كلها؟!!.
لا
نريد أن نسند إلى شرف ألسنة إفريقيا ما هي برئية منه من إطلاق لغات عليها كاملا مع
وجود لهجات فيها لكن نريد الإنصاف في نظرات خارجية لهذه الألسنة سواء النظرات
الإخبارية أو الكتابية أو التحادثية، حتى نكون موضوعيين في التعامل مع الغير وحتى
لا نبخس الناس أشياءهم ونكون متأهّلين بحمل الأمانة العلمية والإنسانية معا.
No comments:
Post a Comment
لا تنس أيها القارئ العزيز أن تشاركنا رأيك في الموضوع وأن تتابعنا ليصلك جديد المدوّنه وشكرا